كلمة العدد

الحجُّ .. العبادةُ التي تجعل القائمَ بها يتغيَّر عن ماضيه كلّه

 

  

                                                                                                                                                                                                                              

       الحجُّ أحد الأركان الأربعة في الإسلام ؛ ولكنّه يمتاز عن غيره من العبادات الأساسيّة الثلاث: الصلاةِ والزكاةِ والصيامِ بخصائص بارزة؛ فهو لم يُفْرَض إلاّ على المستطيع . قال تعالى: "وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً" (آل عمران/97).

       ومعنى الاستطاعة سبيلاً: أن يملك مسلمٌ الزاد والراحلة ، كما أكّد ابن كثير رحمه الله (الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المتوفى 774هـ) في معرض الحديث عن معنى الآية في ضوء أحاديث وأقوال مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم. كما أكّد رحمه الله أن الاستطاعة أقسام ؛ فتارة يكون الشخص مستطيعًا بنفسه، وتارة بغيره، كما هو مُقَرَّر في كتب الأحكام.

       ومن خصائصه : أنه ليس مفروضًا في العمر إلاّ مرة واحدةً . قال ابن كثير رحمه الله: "وإنما يجب على المُكَلَّف في العمر مرةً راحدةً بالنصّ والإجماع" فروى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أيها الناس! قد فُرض عليكم الحجُّ فحُجُّوا. فقال رجل: أ كلَّ عام يارسول الله! فسكت. حتى قالها ثلاثًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لوقلتُ: نعم، لوجبتْ ولما استطعتم . ثم قال: ذروني ما تركتُكم ، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم . وإذا أمرتُكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتُكم عن شيء فدعوه" والحديثُ رواه مسلم وأبوداؤد والنسائي وابن ماجة والحاكم بطرق أخرى.

       ومن خصائصه: أنّه تعالى أتمَّ به على المسلمين النعمةَ وأكمل به الدينَ، فقال تعالى فيما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم من الآية في حجة الوداع: "اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ ديْنَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" (المائدة/3).

       ومن خصائصه: أن ثوابه الجنّة إذا كان مبرورًا؛ فقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الحج المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنة" (متفق عليه) قيل: وما برُّه؟ قال: "إطعام الطعام وطيب الكلام" وقال النوويّ رحمه الله في "رياض الصالحين": المبرور: هو الذي لايرتكب صاحبُه فيه معصيةً (رواه أحمد والطبراني في الأوسط بإسناد حسن، وابن خزيمة، والبيهقي، والحاكم مختصرًا، وقال: صحيح الإسناد).

       وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" (متفق عليه).

       ومن كان كذلك دخل الجنّة بفضل الله لامَحَالَة.

       وفي حديث: "انظروا يا ملائكتي إلى عبادي جاؤوني شُعْثًا غُبْرًا ضاحين ، أُشْهِدكم يا ملائكتي أني قد غفرتُ لهم"(1).

       ومن خصائصه: أنه ينفي الفقرَ ويمحو الذنوبَ؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "تَابِعُوا بين الحجّ والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ، كما ينفي الكيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلاّ الجنة"(2).

       ومن خصائصه: استجابة الدعوات وتحقيق الحاجات؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "الحُجَّاج والعُمَّار وفد الله إن دعوه أجابهم وإن سألوه أعطاهم"(3).

*  *  *

       والحاجّ يحجّ لاداء مناسكه المكانَ المُقَدَّسَ الذي يظلّ قلبُه مُتَعَلِّقًا به مادام حيًّا؛ لأنّ حبّه مغروس في قلوب المسلمين بدعاء سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام:

       "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلـٰـوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرٰتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(إبراهيم/37).

       وكان من حكمة الله تعالى ومشيئته سبحانه أنه لم يجعل أفئدةَ الناس كلهم تهوي إليهم، وإنما خصّ من الناس المسلمين فقط ؛ حتى لايُزَاحَمُوا بغير المسلمين؛ فقد قال ابن كثير – رحمه الله – : قال ابن عباس – رضي الله عنهما – ومجاهد وسعيد بن جبير – رحمهم الله جميعًا – : لوقال: "أفئدة الناس" لازدحم عليه فارسُ والروم واليهود والنصارى والناسُ كلُّهم؛ ولكن قال: "مِنَ النَّاسِ" فاختصّ به المسلمون.

       إن الحنين المزروع في قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى هذا البيت المكرم وهذا البلد الأمين بهذا الوادي غير ذي الزرع، إنما هو استجابة إلهيّة لدعاء أبي الأنبياء سيدنا وأبينا إبراهيم الخليل عليه السلام، وهو معجزة حيَّة شاخصةٌ، مقيمة دائمة، يشهد بها كل مسلم ويؤمن بها في قرارة قلبه، ويلفظ بها إعجابًا وإقرارًا بلسانه. كم من أمكنة في دينا الله يسمع بها المسلم أو يزورها ويشاهدها وينزل عليها، ويُعْجَب بها، ويُسَرَّ بمناظرها الخلاّبة ومشاهدها الطبيعيّة الرائعة أو آثارها الإنسانيّة الباقية؛ ولكنه لايحدث أنه يحنّ إليها هذا الحنين الشديد قبل زيارته لها وبعدها ، كما يحنّ إلى هذا البيت وهذا الوادي غير ذي الزرع المجرد من الأشجار والخضرات والمباهج التي تتحلّى بها الكثير من الأمكنة ذات الجمال الطبيعيّ في دنيا الله.

       يشتاق إليه المسلم قبل أن يزوره، ويظلّ يتطلّع إلى زيارته والسعادة بأداء الحج أو العمرة فيه، حتى إذا اكتحلت عيناه برؤيته وسعدت قدماه بوطئه، يزداد حنينًا إليه، وشغفًا به، وتطلّعًا إليه، وحرصًا عليه، ورغبة فيه، ويظلّ يشتاق لزيارته المتكررة، ولا يُشْفَى ظمؤه كلما زاره ونزل برحابه، ومشى على ترابه، وتنفّس في هوائه، وتجوّل في أجوائه، وتَمَتَّع بالصلاة والقيام والتلاوة والعبادة في مسجده الحرام، والنظر المباشر إلى بيته العتيق والطواف به غير المعدود، ومماسّة أستاره وجدرانه، ومعانقة ملتزمه وعتبته، وتقبيل حجره واستلامه، والسعي بين صفاه ومرواه، والتطواف في هذا البلد الحبيب الطاهر، ودروبه وزقاقه، وفي مناه وعرفاته، ورؤية جباله وسهوله، والشرب من زمزمه وعبّ مائه، ومعايشة سكّانه، وملاقاة إخوانه من الحُجَّاج والعُمَّار، والرُكَّع السجود، والآتين إليه من كل فجّ عميق، والتضرع إلى الله؛ والبكاء في حضرته في كل شبر من أشبار المشاعر، ولاسيما المسجد الحرام.

       ورغم كون هذا البلد الأمين غيرَ ذي زرع يشاهد الحُجَّاجُ والعُمَّارُ وسُكَّانُ البلد والنازلون به وجميعُ الغادين والرائحين إليه استجابةَ الله عز وجل لدعاء سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام: "وَارْزُقْهُم مِنَ الثَّمَرٰتِ". قال ابنُ كثير – رحمه الله – : وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته: أنه ليس في البلد الحرام: مكّةَ شجرة مثمرة، وهي تُجْبَىٰ إليه ثمراتُ ما حولها، استجابةً لخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلامُ.

       وقد صَرَّح بذلك سبحانه وتعالى في آية أخرى:

       "أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثـَمَرَٰتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا"(القصص/57).

       الثمرات والفواكه والأرزاقُ بأنواعها تتدفّق إلى هذه الأرض المباركة بشكل لا يُشَاهَد في مكان آخر من أمكنة الدنيا. والمؤمنُ يرى ذلك فيزداد إيمانًا بقدرة الله عَزَّ وجَلَّ، وإكرامه لعباده الأنبياء والمُرْسَلِين، وقبوله لأدعيتهم. والحاجُّ والمعتمرُ يشاهد ذلك فيلتقطه بخياله، ويثبته في ذاكرته، ويعود به إلى وطنه، فيظلّ يعطش إلى زيارة هذا البلد المُحرَّم الذي أكرمه الله بهذه النعماء الجليلة بفضله ومنّه، ليتمتع بها من جديد، إلى جانب المنافع الإيمانيَّة، والمكاسب الروحانيَّة غير المعدودة ، التي يشهدها ويدّخرها لتكون زادًا له في الدنيا والآخرة.

*  *  *

       واللهُ الذي خلق السماوات والأرضين، وأنشأ الأمكنة والبقاع، هو الذي جعل هذه البقاع أطهرَ البقاع وأقدسَها، وخيرَ الأماكن وأشرفَها، وأحبَّها إليه وأطيبَها لديه، وجعلها حَرَمًا آمِنًا فقال تعالى:

       "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا"(البقرة/126). "فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا" (آل عمران/97) "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا" (إبراهيم/35)  "أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثـَمَرٰتُ كُلِّ شَيْءٍ" (القصص/57) "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا" (العنكبوت/67).

       وقال صلى الله عليه وسلم:

       "إنّ هذا البلد حَرَّمه الله تعالى يومَ خلق السماوات والأرض؛ فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، وإنّه لم يحلّ القتال فيها لأحد قبلي، ولم يحلّ لي إلاّ ساعةً من نهار؛ فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لايُعضد شوكُه، ولايُنفر صيدُه، ولايَلتقط لقطتَه إلاّ من عرَّفها،ولايختلى خلاها . قال العبّاس يارسول الله! إلاّ الإذخر. فقال: إلاّ الإذخر". والإذخر نبات صغير طيب الرائحة يوضع في البيوت لطيب رائحتها. (متفق عليه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما).

       والحاجّ والمعتمر يؤدي المناسك كلَّها في هذه الأماكن الطاهرة الآمنة المباركة التي شهدت طلوعَ الإسلام، ونزولَ الوحي، وآخرَ اتصال للسماء بالأرض، ومولدَ النبي صلى الله عليه وسلم، وبعثتَه؛ فكلُّ شبر منها مُعَطَّر بالروحانيّة ومُضَمَّخ بالبركات والخيرات؛ فهي تجذب قلوب المسلمين بشكل أشدّ وأقوى من جذب المغناطيس للقطع الحديديّة؛ ولذلك يعود المسلم بعد أداء مناسك الحج، والتمتع بالصلاة والقيام، وقضاء الساعات الطيبات فيها بغذاء إيماني ودواء روحانيّ يُكَيِّف كلَّ أدائه في الحياة وكلَّ سلوكه فيما يبقى من لحظات عمره الفاني بلذّة يشعر بها؛ ولكن قد لايكاد يصفها، فيعود في صلاته خاشعًا خاضعًا، وفي زكاته مخلصًا صادقًا، وفي صيامه مؤمنًا واعيًا، وفي جميع عباداته محسنًا كأنه يرى الله أو يراه. وهذه الكيفيّة الإيمانيّة التي إنما يكسبها المسلم عن طريق أدائه الحجَّ وزيارته لتلك البقاع الطاهرة، لايمكن أن تتأتى عن طريق عبادات أخرى شَرَعَها الإسلامُ وأمر بها أبناءه؛ لأنّها مرهونة بأداء الحجّ وبحضور هذه الأمكنة والمشاهر المقدسة التي تتوسّط العالمَ بشهادة العلماء حتى من غير المسلمين، والتي منها امتدّت الأرض؛ فكانت هي مُبْتَدَأ الأرض بحكمة الله ومشيئته؛ من هنا يعود المسلم من بعد الحج كأنّه وُلِدَ ولادةً جديدة، كيوم وَلَدَته أمُّه، مُجَرَّدًا من الذنوب والآثام، فيبدأ رحلةً في الحياة غير التي ظلّ يقوم بها من ذي قبل؛ فهو مؤمن في معنى الكلمة، مؤمن شاعر بالمسؤوليّة نحو نفسه، ودينه وعقيدته، وعبادته وكل ما يقوم به من أركان الإسلام وأحكامه وآدابه. كانت عباداته من قبل شكليّة في الأغلب، فصارت الآن تحمل كل معنى، وتتصف بكل خصيصة مطلوبة وكيفيّة منشودة. إنه بعد عودته من رحلة الحج المباركة عَرَفَ معنى العبادة، وأدرك لذّةَ الحبّ لله والاِطِّراحَ على عتبته والركض في الحياة من أجل رضاه. إنّه بعد أدائه هذه العبادة الفريدة عاد يسهل عليه ما كان يصعب عليه من كثير من الأحكام؛ فهو يبادر إلى فعل الخيرات وترك جميع المنكرات، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والقيام في الساعات الهادئة من الليل والناس نيام. إنه يرحم الصغير عفويًّا، ويحترم الكبير بإرادة تلقائيّة، وينفق على الفقراء والمساكن عن طواعية ورضا، ويسابق إلى تحقيق المشاريع الإسلاميّة والأعمال الخيريّة وكأنه لذلك خُلِق ومن أجله وُلِدَ، إنّه يجد نفسه صغيرًا في عينيه؛ فهو كبير لدى جميع الناس، إنّه يجد نفسه مضطرًّا للتواضع وإنكار الذات وكأنه يموت إذا لم يتواضع ولم ينكسر. إنّه يحبّ الله ويحبّ رسوله وكل من يحبّهما، وعن حبّ الله يصدر في جميع الأعمال والأقوال التي تصدر من شخصه. إنّه لله يعيش، وبالله يتصرف في الحياة، وفي الله يحبّ ويبغض، ولا هوايةَ له وراء ذلك.

       كم من رحلة قام بها في الحياة قبل رحلة الحج، وكم من سفر سافره إلى الشرق والغرب؛ ولكنّه لم يتغيّر هذا التغيرَ. سافر ليتعلّم، فتعلّم؛ لكنه بقي على جهله في شأن السيرة والسلوك، سافر ليتجر، فاتّجر، وأثرى، وكسب أرباحًا كثيرة نعّمتْ حياتَه ولينّت وسائلَها، ونوّعتها؛ ولكنّه بقي على أدائه غير الإنساني الذي كان لايليق بمسلم أسلم وجهه لله، وسافر ليزور الأماكن ويشاهد البلاد، ويتعرّف على العالم، ويطّلع على مناهج الحياة لدى الأمم والشعوب، ويكسب الخبرات، وينضج التجارب، ويعود إنسانًا يعلم الكثيرَ، ويصدر في أعمال الحياة عن طول مراس، فتحقق له ما توخّاه وما تطلّع إليه وحرص عليه واهتمّ به؛ ولكنّ ذلك كله لم ينحت منه إنسانًا سويًّا ينفع الناس ويُنْتِج ما يمكث في الأرض ويرضى عنه الله، فيكون ذخرًا له في الآخرة يوم لاينفع كلُّ ما في الدنيا إلاّ رضا الله عزّ وجلّ.

       ولكنه سَافَرَ للحج، ووُفِّق أن يسعد بحجة مبرورة، وذنب مغفور، وتجارة لن تبور؛ فعاد يحظى بحسني الدنيا والآخرة؛ حيث كسب حسنَ الذكر وطيبَ السمعة ورضا الله تعالى، وَرَجَع كيوم ولدته أمه، فتغيّر عن ماضيه كلّه، وصار إنسانًا غير الذي كان. كان من ذي قبل مسلمًا بالاسم، فصار مسلمًا بالمعنى والحقيقة، كان مُلَطَّخًا بالآثام والذنوب، فصار مُبَرَّءًا منها؛ لأنّ الحجرَ الأسَوَّدَ بيّض قلبه، وصحائف أعماله، وأعاده بحيث لن يتغير بإذن الله على ما طبعه به الآن بعد استلامه من الحسنات وسيرة الإسلام الصادق والإيمان المُبْرَم.

       إنَّ الحجَّ حقًّا رحلةٌ عن الماضي إلى الحاضر الجديد على المسلم في كل معانيه، رحلةٌ عن الآثام والذنوب إلى الحسنات والخيرات والطهر الدائم والعفاف القائم، رحلة عن الماضي الملوَّث بالخطايا والتقصيرات والسيئات والظلام القاتم إلى الحاضر الأغرّ الصافي، والمستقبل المشرق، الزاهر الباسم، الذي تفرّ منه الدجى فرار الخفافيش من النور.

*  *  *

       ثم إن الحاجّ لايسعه بهذه المناسبة – التي هي أسعد المناسبات في حياته – إلاّ أن يقصد المدينةَ المنورةَ على جناح الشوق ومركب الحنين، فتكتحل عيناه برؤية ذلك المسجد النبوي الذي بناه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، فيسجد حيثما سجد، ويقوم في الساعات الهادئات وفي كل وقت يتاح له فيه في الروضة التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"(1) وفي أي جزء من أجزائه، ويقف في المواجهة الشريفة ويصلي و يسلم مباشرة على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ووزيريه: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كما هو ثابت في الشريعة يردّ السلامَ على كل من يُسَلِّم عليه. ولاعجب أن يغفره الله إذا استغفره، وطلب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفره له، فيستغفر له؛ لأنه في قبره يُسَمَّع ويتاح له من قبل الله أن يردّ السلام، ويستغفر الله لمن يطلب إليه ذلك؛ فقد ذكر ابن كثير رحمه الله في معرض تفسير الآية الكريمةِ: "وَلَو أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوْا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواللهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرٍَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيْمًا" (النساء/64) قصّة طريفةً تؤيّد ذلك، فقال:

       "يرشد الله تعالى العصاةَ والمذنبين إذا وقع منهم الخطأُ والعصيانُ أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفرلهم؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفرلهم؛ ولهذا قال: "لَوَجَدُو اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا". وقد ذكر جماعةٌ منهم الشيخ أبو نصر بن الصبّاغ في كتابه "الشامل" الحكاية المشهورة عن العُتْبِيّ، قال: كنتُ جالسًا عند قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاءه أعرابيٌّ، فقال: السلام عليك يارسول الله! سمعتُ اللهَ يقول: "وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاءُوك فاَسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا" وقد جئتُك مُسْتَغْفِرًا لذنبي، مُسْتَشْفِعًا بك ربّي، ثم أنشأ يقول:

يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُه

فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ القَاعُ وَالأَكَمُ

نَفْسِي الْفِــدَاءُ لِقَبْـرٍ أَنْتَ سَاكِنُــه

فِيْهِ الْعَفَافُ وَفِيـــهِ الجُوْدُ وَالْكَرَمُ

       ثم انصرفَ الأعرابيُّ، فغَلَبَتني عيني، فرأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال: يا عتبيُّ! اِلْحَقِ الأعرابيَّ، فبَشِّرْهُ أنَّ اللهَ قد غَفَرَ له".

       فلا عجب أن يأتيَ اليومَ حاجٌ يكون قد ظَلَمَ نفسَه في حياته التي سبقت حجّته – ومن منّا لم يظلم نفسه؟! – ويقف بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم في قبره، ويستغفر الله عنده، ويسأله أن يستغفرله ربّه، فيقبل الله توبته النصوحَ، ويرحمه ويمنّ عليه بفضله وكرمه، فيكون قد ظفر بحظّ وافر بمعنى الكلمة، ويعود إلى موطنه الطيني الفاني وقد حَصَلَ على تذكرة الجنّة في الدار الآخرة الباقية.

*  *  *

       والحاجُّ في المدينة المنوّرة لايشبع ظمؤه بالصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وإنما يزور المشاهد ويقصد المساجد الأخرى وعلى رأسها مسجدُ قباءَ أول محطّة بالمدينة المنورة للنبي صلى الله عليه وسلم لدى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وأوّل مسجد في الإسلام أُسِّسَ على التقوى من أول يوم، وقد أثنى عليه الله في كتابه الخالد ووحيه الذي أنزله على رسوله، فقال: "لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ" (التوبة/108). فما تقر عيناه برؤيته وزيارته فقط وإنما يُصَلِّي فيه ما شاء الله أن يُصَلِّي، وبعضُ السعداء تسنح لهم الفرصة لأداء عدة صلوات فيه بالجماعة أو أداء النوافل. كما يزور مسجد القبلتين، والمساجد السبعة. ويزور مقبرة جنّة البقيع فيسلم على المقبورين فيه من الصحابة وأعلام الأمّة، ويزور موقع غزوة أحد وجبل أحد الذي يحبّه الله ورسوله، وتقر عينا كل حاجّ ومعتمر يرد المدينة بكل شبر من أشبار هذه الأرض التي وطئتها قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاش على ترابها عشر سنوات من حياته المُبَارَكة، ومنها حَرَّك الجيوش إلى أطراف الجزيرة العربيّة، وعليها أسّس دولة الإسلام الأولى، وفيها آخى بين المهاجرين والأنصار، وفي جنباتها استقرّت شريعة الإسلام، وفي رحابها نزلت القوانين والأحكام، وصنع بها النبيّ صلى الله عليه وسلم جيلاً من البشر غبطته الملائكة، ومارأت السماء مثلَه من بعده أبدًا، ولن تسعد الأرض بوجوده إلى يوم القيامة: جيل الصحابة الأبرار الأطهار الأخيار الذين لهج الله تعالى بذكرهم في كتابه الخالد، وأثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بملء فيه. ويدخل الحاجّ هذه الأرض فلا يريد أن يخرج منها أبدًا، وكلّما خرج منها خرج مضطرًّا؛ لأنّ أرضَ المدينة يتعلّق بها قلبُ المسلم تعلُّقًا لايكاد يصفه الواصفون مهما أُوْتُوا من المقدرة البيانيّة، ويخرج منها على كره من قلبه للخروج، وذكراها تبقى في قلبه ما بقي حيًّا، ويخرج منها وقلبُه مُعَلّق بها، يحنّ دائمًا إلى العودة إليها، وملازمتها والعيش فيها. إنّها موطن روح كل مسلم، ومهوى فؤاد كل مؤمن بالله. وقد قال علماءُ الأمة وأدباؤُها وشعراؤُها في الحنين إليها من الأبيات ما لوجُمِعَ لكان مكتبةً زاخرة لايقدر واحدٌ منّا على استيعاب قراءته ولو بقي يقرأ على امتداد حياته.

*  *  *

       حقًّا إنّ الحاجّ يعود من هذه الربوع الطاهرة في مكة والمدينة، وذنبُه مغفور، وحجُّه مبرور، بتجارة لن تبور بإذن الله، وقد انقلبت حياته رأسًا على عقب، وتَلَبَّسَ بشخصيّة غير التي كان قد تَوَجَّهَ بها إلى مكة والمدينة. قَدَّرالله تعالى لكل مسلم يؤمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا. زيارتهما، والسعادة بالحج أو العمرة، بل الإقامة بالمدينتين مع أداء حقهما وحق أهلهما، والموت والدفن في أي منهما. وليس ذلك على الله بعزيز.

 

(تحريرًا في الساعة الواحدة ظهرًا من يوم الأربعاء: 21/ شوال 1429هـ = 22/ أكتوبر 2008م)

 

نور عالم خليل الأميني



(1) أخرجه البغويُّ في شرح السنّة (الحجّ/ باب فضل يوم عرفة: 1924) عن جابر رضي الله عنه – مُطَوَّلاً – قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يومُ عرفة إنّ الله ينزل إلى السماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكةَ؛ فيقول: "اُنْظُرُوا إلى عبادي أتوني شُعْثًا غُبْرًا ضاحين من كل فجّ عميق، أشهدكم أنّي قد غفرتُ لهم" فتقول الملائكةُ: ياربّ! فلان كان يرهق، وفلان وفلانة، قال: يقول الله عزّ وجلّ: "لقد غفرتُ لهم". قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما من يوم أكثر عتقًا من النّار من يوم عرفة".

         وأخرجه البيهقيّ مختصرًا عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يباهي بأهل عرفات أهلَ السماء؛ فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثًا غبرًا".

         وفي رواية أبي نوح: "فيقول لهم: أنظروا إلى عبادي هؤلاء".

(2) أخرج الترمذي (كتاب الحج/ باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة ح: 810) عن قتيبة وأبي سعيد الأشج عن أبي خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن عاصم عن شقيق عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة .

         وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنّة .

(3) أخرجه ابنُ ماجة في سننه (المناسك/ باب فضل دعاء الحجاج: 2892) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: الحجاج والعمَّارُ وفد الله، إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفرلهم .

         وبرقم 2893 عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الغازي في سبيل الله والحاجّ والمعتمر وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم .

(1)  أخرجه البخاريّ (فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة/ باب فضل ما بين القبر والمنبر: 1195) عن عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما بين بيتي و منبري روضة من رياض الجنّة .

 

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذو القعدة – ذوالحجة 1429هـ = نوفمبر–ديسمبر 2008م ، العـدد : 11-12 ، السنـة : 32